العيش الإسلامي المسيحي المشترك نهج الرسول
هاني فحص
السفير
8-11-2010
استغرب المسلمون تكريم الرسول (ص) لوفد مسيحي زار المدينة (7 ه) قادماً من الحبشة، لاعتقادهم أن ذلك ينافي تنزيه النبي. وقال له البعض: «نحن نكفيك أمرهم»، ولكنه أصر على تكريمهم وقال: «انهم كانوا لأصحابي مكرمين، فأحب أن أكافئهم». بعدما كان قد قال: «أنا أولى الناس بابن مريم»، بانياً على التأسيس القرآني للمودة.
وجاءه وفدان من نصارى نجران، كان أحدهما مؤلفا من 60 رجلاً بينهم 14 من الأساقفة والعلماء، فاستضافهم في مسجده فأقاموا صلواتهم فيه مع شارة الصليب والتلفظ بالآب والابن.
وحاول بعض الصحابة منعهم فنهاهم وقال: «دعوهم دعوهم» ورفض الوفد الدخول في الاسلام لنفيه ألوهية المسيح وبنوته لله... فدعاهم الرسول الى المباهلة فطلبوا مهلة، فأشار عليهم أميرهم (العاقب) بأنهم اذا قرروا البقاء على دينهم فليوادعوا الرسول لينصرفوا الى بلادهم. فقالوا: «يا رسول الله احكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك»، أي من دون المباهلة. فكتب لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، جوار الله ورسوله، لا يغيَّر أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم وسلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبداً ما أصلحوا ونصحوا، غير مبتلين بظلم ولا ظالمين». وتوالت الوفود عام (9 ه) وأحدها كان من جرباء (الشهباء الآن) والآخر من اذرح قربها، وثالث من أيلة (العقبة) كتب له الرسول «هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله، ليَحْنَة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر». أما وفد تغلب فقد كان (16) مسيحياً جاؤوا معلقين صلبانهم الذهبية على صدورهم، فاحتفى بهم المسلمون وأنزلهم الرسول في دار رملة بنت الحارث وأقرهم علي مسيحيتهم. وتوالت الوفود متزامنة مع رسائل الرسول (ص) الى حكام الامصار عرضاً للاسلام أو التعاهد واستمرار الحوار وادخال المسيحيين في ذمة المسلمين لا في ملكيتهم. فماذا يعرف عموم المسلمين عن تفاصيل هذا النهج التوحدي، الذي اعتدى عليه لاحقا حكام الجور تحت مظلة فقه السلاطين. وهو نهج موصول بالقرآن وحثه على العيش المشترك والحوار والاحترام المتبادل. أما المتطرفون الذين يقتلون المسيحيين لأنهم مسيحيون، أو يهمشونهم أو يهجرونهم، فيعرفون ذلك كله، ولكنهم يحرفونه، ولا يلبثون أن يدمنوا القتل فيقتلون المسلمين المختلفين عنهم مذهبياً، ويكملون على أهل مذهبهم المختلفين معهم سياسياً.
وإذا ما كان المسيحيون في العراق يتعرضون من دون سابقة شعبية الى هذا القدر من الاضطهاد والمضايقة والقتل والتخويف ويبحثون عن وطن بديل مستحيل، فإن المؤسف ان البعض يقلل من خطورة ذلك، وان كان البعض الآخر يبالغ في حجمه، فيسهم الفريقان في مضاعفة الخوف والعزلة والهجرة الداخلية والخارجية، وصولاً الى افراغ العراق من مكون أصيل في اجتماعه وثقافته وحضارته.
وأنا شاهد لم أسمع كلمة رضا على هذا الوضع من مسؤول عراقي، وكلهم يستنكرون وخائفون على العراق مما حدث للمسيحيين
وكما أن الاعتدال لا يقف عند حد إلا إذا وضع له حد، وعليه فلا بد من تضافر الجهود داخل الدولة والمجتمع، وبينهما الدينية القائدة، ليعود العراق الى مثاله التاريخي في تغليب التفاهم والاندماج والوفاق على الشقاق. وهنا نسأل الطبقة الحاكمة التي تسلمت الزمام بعد الطاغية: ألم تصبح رقعة الفتن أوسع واكثر عدداً؟ وان كانت اقسى في عهد الطاغية فانها كانت واحدة وضد الجميع... اما حال العراق الآن من حيث استشراء سلوك الفتنة، فإنها ابلغ وأشد ايلاماً واثارة للقلق. والمسألة ليست مسألة نيات، ولا ذريعة في ان الأمن العراقي مضطرب. ولا بد من عناية استثنائية بهذا الشأن، ولا يجوز ان يكون الاستبداد والحرية سواء فيما يعود الى المس بالعيش المشترك، الذي ندعو الى تجريم من يزعزعه قانونياً. واذا كان الارهابيون يتخذون من الشيطان مثالاً ومن فقه الشيطنة غطاء. فلا بد من ان نستمد مثالنا من فقه السلام ومن سلوك الرسول والأئمة والصحابة.
===========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق